في المناطق الأكثر عزلة في موريتانيا، من غيدي ماغا إلى الحوض الشرقي، وفي قلب الأزمات الصحية والاجتماعية، تُسمع صوت امرأة حازمة تروي قصتها: عيشة ديبي جاو، قابلة إنسانية متخصصة في التكفل بحالات العنف القائم على النوع الاجتماعي.
رغم أن هذه المهنة لم تكن خيارها الأول، فقد أصبحت سريعًا رسالتها العميقة — واليوم، مهمتها الإنسانية.
بدفع من عائلتها، التحقت عيشة بالمدرسة الوطنية للصحة العمومية في نواكشوط، وبدأت دراستها في مجال القبالة على مضض، بينما كانت تتابع في الوقت نفسه تعليمها الجامعي. لكن، سرعان ما فرضت عليها واقع الميدان نفسه.
تحكي عيشة أن تدريبها في السنة الثانية جرى في سياق نقص حاد في الكوادر الصحية. وتتذكر جيدًا أول عملية ولادة أشرفت عليها: امرأة في الثلاثينات من عمرها. مستخدمة ما تعلمته نظريًا، حاولت أن تقدم لها الدعم والطمأنينة. كان شعورها بالرضا كبيرًا عندما رأت المريضة ترتاح وتضع مولودًا ذكرًا (وكانت تنوي تسميته "عيشة" لو كانت أنثى). كان ذلك دافعًا قويًا لها، وراودها حينها سؤال عميق: كم من النساء الأخريات المحتاجات ينتظرن مساعدتي؟ وهنا بدأت ملامح وعيها المهني تتشكل.
استنادًا إلى هذه التجربة الأولى المؤثرة، بدأت ملامح مسارها المهني تتضح. دخلت عيشة عالم العمل من بوابة العمل الإنساني، حيث خاضت تجربة ميدانية مليئة بالتحديات والتواضع. ففي عام 2018، انضمت إلى منظمة غير حكومية دولية في مهمة إلى ولاية غيدي ماغا، وهي منطقة معزولة في جنوب موريتانيا. كان دورها دعم الهياكل الصحية وتعويض النقص في القابلات، من خلال أنشطة الصحة الجنسية والإنجابية، وتسيير جناح الأمومة، ومتابعة تنفيذ البروتوكولات الصحية الوطنية. تقول عيشة: "كنت أتوقع أن أقدم خبرتي، لكنني صُدمت من مستوى الاستقلالية الذي يتمتع به هؤلاء العاملون الصحيون في أعماق موريتانيا، رغم قلة الإمكانيات. لقد كانت درسًا في التواضع".
تدرّجت عيشة في مسيرتها المهنية حتى أصبحت مشرفة، تشرف على أنشطة العيادة المتنقلة، بما في ذلك التلقيح الروتيني ومعالجة حالات سوء التغذية الحاد الوخيم. كانت مكلفة بشكل خاص بتوفير خدمات الصحة الجنسية والإنجابية في عمق المجتمعات المعزولة في ولاية غيدي ماغا . وكانت تنقلاتها المستمرة عبر المناطق الريفية تتيح لها تقديم خدمات الصحة الإنجابية والتلقيح والدعم الغذائي.
لكن أكثر ما لامس عيشة هو البُعد الإنساني لهذه اللقاءات.
«لم أكن أتحدث كلمة واحدة من اللغة السوننكية، وهي اللغة المحلية. ومع ذلك، وبفضل الاحترام واللطف، نشأت علاقة وثيقة. لقد علمتني هذه المجتمعات أن الفقر أمر نسبي. إن ثروتهم الإنسانية، وشجاعتهم، وروحهم في المشاركة، أثرت في نفسي بعمق.»
بصفتي قابلة إنسانية، أجد نفسي في الخطوط الأمامية لأعالج وأعيد الكرامة لأشخاص في حالات يائسة. سواء كان الأمر متعلقًا بالنزاعات، أو الكوارث، أو النزوح، فإن دوري أساسي في الحد من الوفيات والأمراض لدى النساء الحوامل وحديثي الولادة.
وجودي هو حلقة وصل حيوية بين الفئات الأكثر هشاشة وخدمات الرعاية الصحية، حاملة الأمل والكرامة والإنسانية في قلب الأزمات.
لقد أصبحت "القابلة الإنسانية" التي أنا عليها اليوم من خلال العمل الميداني. دوري لا يقتصر على الرعاية السريرية، بل أشارك أيضًا في توعية المجتمعات، وتعزيز قدرتها على الصمود، والدفاع عن حق النساء في الحصول على رعاية صحية ذات جودة. كما أساهم في الوقاية ومعالجة حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي، من خلال تقديم الدعم والتوجيه والرعاية الطبية الأولية للنساء المتضررات.
وبفضل خبرتها، انضمت عيشة إلى العيادة المتنقلة لصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) في أكتوبر 2024، بهدف تقديم خدماتها للمجتمعات المضيفة وكذلك للاجئين الماليين في ولاية الحوض الشرقي.
في كينجيرلا، وهي قرية تقع على بعد 15 كم من فصالة، بالقرب من الحدود مع مالي، التقينا بها وهي تمارس عملها، تقدم الرعاية لصف طويل من النساء.
توضح عيشة أن كونها قابلة متخصصة في التعامل مع حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي لا يقتصر على تخفيف المعاناة الجسدية:
«بل يشمل أيضًا محاولة فهم الألم العاطفي المخفي وراء الصمت أو الابتسامة المتكلفة، لأن ذلك يؤثر بعمق على صحة المرأة.»
وتواصل حديثها:
«أولي اهتمامًا خاصًا لهؤلاء النساء، اللواتي يكنّ غالبًا ضحايا للعنف الجسدي أو الجنسي أو النفسي، سواء من الغرباء أو من شركائهن أو حتى من أسر أزواجهن. نحن، كفريق، نشكل نقطة ارتكاز لهن. نقدم لهن أكثر من رعاية طبية: نقدم لهن الإصغاء، والحماية، والأمل.»
ورغم الصعوبات وبعد المسافات، تظل عيشة ملتزمة ومصممة. فما الذي يمنحها هذه القوة؟ إنها القناعة العميقة بأن كل فعل، مهما كان بسيطًا، يمكن أن يُحدث فرقًا كبيرًا.
تقول عيشة:
«لقد اكتسبت الكثير من الخبرات التي أطبقها اليوم في عملي. أكتشف الحالات، أرافق الضحايا، أوجههن نحو الدعم المناسب… وابتسامة واحدة متبادلة تعني لي أكثر من ألف مكافأة.»
ومن بين أكثر التجارب التي لا تنسى في مسيرتها المهنية في صندوق الأمم المتحدة للسكان، تستشهد عيشة بحالة مساعدة امرأة لاجئة في وضع ضعيف للغاية خلال إحدى جولات العيادة المتنقلة. وتروي قائلةً: "اتصلت بالفريق عائلة لاجئة ترافقها ابنتها، وهي شابة تبلغ من العمر 17 عاماً، وكانت تعاني من إعاقة جسدية وعقلية وفي حالة صحية سيئة للغاية. وبعد إجراء تقييم أولي لحالتها واستقرار حالتها في الموقع، ارتأت ضرورة نقلها إلى مركز فصالة الصحي، حيث تم إدخالها إلى المستشفى.
كشفت المعلومات الأولية التي تم جمعها عن حالة صادمة للغاية. فوفقاً لشهادة الأب، كانت الشابة قد نجت من سلسلة من الأحداث العنيفة بشكل خاص، بما في ذلك وفاة والدتها واختطاف أطفالها من قبل زوجها السابق. ويقال إن القرية التي تنحدر منها الفتاة قد زارها رجال مسلحون في عدة مناسبات. وفي كل مرة كان السكان يفرون إلى بر الأمان. وبسبب إعاقتها الجسدية والعقلية، لم تتمكن الشابة من الفرار مثل الآخرين، مما تركها وحيدة ومعرضة لعنف خطير.
أجرينا فحصًا شاملًا للبحث عن علامات الاعتداء الجنسي، بالإضافة إلى تقييم احتمالية الحمل، والذي ثبت لحسن الحظ أنه سلبي. بعد ذلك تمت مراقبة المريضة من قبل الفريق وتمكنت من إقامة علاقة ثقة معها. وقد لوحظ تأثير واضح للهدوء خلال المقابلة المسائية بعد نوم طويل في مركز فصالة الصحي.
وكجزء من النهج الشامل للرعاية، تلقت الشابة دعمًا نفسيًا اجتماعيًا وتم تسجيلها في برنامج التحويلات النقدية لتوفير الدعم الاقتصادي لأسرتها. نصحت والديها بتوخي اليقظة بشكل خاص. ومع ذلك، وعلى الرغم من النصيحة المقدمة، أعرب الوالدان عن رغبتهما في العودة إلى قرية نيري، وهي قرية تبعد بضعة كيلومترات عن فصالة، ووعدا بأن يكونا أكثر يقظة وأن يعودا إذا لزم الأمر.
توضح هذه الحالة، التي تركت انطباعًا عميقًا في نفسي، أهمية التدخل في المناطق التي يكون الوصول إليها محدودًا، وكذلك الحاجة إلى تعزيز آليات الحماية والرصد النفسي والاجتماعي للنساء والفتيات في حالة ضائقة.